ISF Gov Lb
Issue November 2018 (Arabic)
Issue Novembre 2018 (Arabe)

مبدعون من لبنان/ت2 /2018

حديث مع الفنان جوزيف مطر/حاوره أ. د. لويس صليبا

فنّان غزير كالمطر. ففي محترف جوزيف مطر في إدّة/جبيل مئات اللوحات المتراكمة والمكدّسة على جوانب الحيطان، وهي تشهد له بخصب النتاج وجدّية العمل. يرسم دون أن يكلّ أو يملّ فالرسم عنده مرادف للحياة، “عليّ أن أرسم دوماً، كي تبقى يدي متآلفة مع الرسم”، يقول لك. يحدّثك بحماس لا يفتر، وبنبرة عالية، فالرسم قضيّته وسيرة حياته. لبنانيّ عنيد، ومسيحيّ عتيق، ففي كلّ لوحة له، مشهد أو إشارة أو رمز لوطنه، وفي كلّ لوحة مُسحة صلاة. تقضي ساعات في مرسمه وكأنها برهة صغيرة: ينقلك من لوحة إلى أخرى ولكلّ لوحة حكاية فتاريخ وطنه بأحداثه الكبرى مرسوم ومخلّد في لوحاته: الحرب الأهلية القذرة، الحرب الإسرائيلية على لبنان تموز 2006، معركة مخيّم نهر البارد 2007، إلخ…ومع كلّ لوحة تعيش الحدث وكأنه حدث الساعة، أو كأنك تصغي إليه في نشرة الأخبار المسائية. وقد خلّد التراث والتقاليد اللبنانية في فنّه.

ولد جوزيف مطر في غادير/جونية آب 1935، ودرس الفن في جامعة مدريد 1961-1963 ونال منها درجة بروفسور، ثم في روما 1973، وفي باريس 1982-1985 ونال الدكتوراه من جامعة باريس ثم حاز على دكتوراه ثانية من الجامعة اللبنانية 1999. تولّى رئاسة قسم الرسم والتصوير في معهد الفنون الجميلة/الجامعة اللبنانية 1980-1985، و 1994-1996. نظّم نحو 60 معرضاً خاصّاً بلوحاته في لبنان والدول العربية والأجنبية. وُضعت عن فنّه أطروحة دكتوراه في جامعة مونتريال كندا (بقلم جوانّا باسيل). حاز جوائز عديدة أبرزها جائزة وزارة التربية اللبنانية 1958، جائزة سعيد عقل ت2/2003. ولا يتّسع المقام لذكر سائر إنجازاته في دنيا الرسم والشعر.

وإثر الجولة الفنّية المثيرة والممتعة في مرسمه، كان لنا مع جوزيف مطر حوار طويل ننقل في التالي أبرز ما ورد فيه.

*س: دكتور جوزيف مطر: رسمتَ حتى اليوم ألوف اللوحات، ولا تزال في ذروة العطاء، وأنت تقول وتردّد: “المبدع لا يكرّر نفسه”. أيمكن مع هذا الكمّ الهائل من النتاج أن لا تكرّر نفسك؟!

في عملية الخلق ما من تكرار، وإلا فلا معنى للخلق، إذ يصبح مجرّد نسخ واستنساخ. قمتُ بمعارض ذات موضوع واحد، كما قمتُ بعدّة محاولات لموضوع أو مشهد واحد ولم يكن في الأمر تكرار إذ لا يمكن أن أكرّر نفسي وأعيد الشيء نفسه. يقال إن أول من شبّه وجه الحسناء الجميلة بالبدر كان عبقريّاً أما الثاني فكان غبيّاً. أما أنا فلستُ أمام موضوع واحد، وإنما أمام ملايين المواضيع التي لا تحصى.

*س: تقول: “لا أحبّ الغموض ولا الثرثرة” أين يكمن الغموض، وأين تكمن الثرثرة في الفنّ، ولا سيما في الرسم حِرفتك، وكيف تتجنّبهما؟

في كلّ حقول التعبير هناك الكثير من الثرثرة! وفي حقل التصوير كذلك. كان عمَر الأنسي يقول لي: اختزل إلى الحدّ الأقصى Simplifier au maximum تقنياً في الرسم والنحت هو اختزال ما ليس ضرورياً لا أكثر ولا أقلّ. وفي الموسيقى والشعر نجد الظاهرة عينها: الكثير من الثرثرة. فلوبير الروائي الفرنسي الشهير مثلاً كان يكتب عشرين صفحة، ويعيد دراستها وصقلها وتحسين لغتها وتنقيحها فتصبح بعد أسبوع صفحة أو صفحتين.

أما بالنسبة إلى الغموض، فأنا لا أحبّ الغموض. وكان أفلوطين يقول ويكرّر: “لا أحبّ الآلهة التي تُعبد في الظلام”. ومثله أنا أحبّ الآلهة التي تُعبد في الأنوار، أحبّ الوضوح والنور! وغوته عندما كان يحتضر ويموت كان يردّد: “النور، المزيد من النور”! وبالنسبة إلي وأنا ابن أثينا فلمّا أقول الآلهة أو الإله، فلا أقصد زيوس ولا جوبيتر أو غيرهما، وإنما الله الحيّ المتجسّد والمخلّص.

*س: تقول: “الروح الشرقية تتّحد وتتكامل مع الفكر الغربي لتشكّل شعلة إنسانية متّقدة”.

-ما الذي تريد أن تقوله تحديداً وعن أي شرق تتحدّث؟!

مفكّرون وفلاسفة كثر يتكلّمون عن حضارة البحر المتوسّط هذه البُركة الصغيرة التي تصل مساحتها إلى خَمس أضعاف مساحة فرنسا  وهذه البركة كانت تدعى أيام الفراعنة والإغريق “البحر الفينيقي” وكانت نجمة القطب الشمالي تسمّى النجمة الفينيقية. وحول هذه البركة أو البحر الصغير نشأت أكثريّة الحضارات التي نعرفها (باستثناء الشرق الأقصى). وكان لهذا البحر شرق حيث تشرق الشمس، وغرب حيث تغيب. أي هناك تكامل طبيعي بين الشرق والغرب: تُطلّ الشمس أو تشرق من وراء السلسلة الغربيةلجبال لبنان، فينبعث النور، ومن هنا نقول نور الشرق. وتنطلق الشمس من هنا لتنير النفوس الغربية حاملة بأشعّتها المحبة والعطاء والمعرفة، كما حملنا نحن الحرف إلى العالم أجمع. ففنيقيا والشاطئ الشرقي للبحر المتوسّط واليونان ومصر الفراعنة هم من حملوا شعلة المعرفة والحضارة والإنسانية. ومن هنا فالشرق والغرب يشكّلان وحدة إنسانية وروحية وعلميّة.

-أين وكيف يتجلّى هذا الاتّحاد والتكامل في لوحاتك؟

هذا الاتّحاد والتكامل قبل أن يتجلّيان في لوحاتي وكتاباتي يتجلّيان في نفسي وفكري، ثم ينعكس هذا التجلّي في اللوحات.

-ما أبرز ما أخذته من الشرق موطنك، ومن الغرب الذي تعلّمتَ فيه؟

من الشرق أخذتُ الروحانيّات والنور والأضواء والتعبّد والصلاة… وتعلّمتُ من الغرب الدقّة Rigueur وكلّ التقنيّات العلمية والمخبريّة. وكما قلتُ لك فأنا ابن لبنان الذي يكلّله صنّين أجمل وأشمخ جبل في العالم وابن أثينا وباريس زينة العالم والخلق. ومن لوحاتي ينبعث النور الذي يعبّر عن حالاتي النفسية، ولا سيما القداسة والمعرفة اللتين أخذتهما من الشرق ومن الغرب معاً.

*س: تقول: “بالنسبة لي هناك فنّ فقط أكان قديماً، معاصراً، أم مستقبليّاً. وعندما أرسم أنسى كلّ معارفي أمام المساحات البيضاء باحثاً في ذاتي عن مفاهيم جديدة وخطوط وألوان”

-ألا يختلف الفن القديم شكلاً ومضموناً عن الفنّ الحديث؟

هناك فنّ أو لا فنّ. أكان ذلك الفنّ قديماً أم معاصراً أم مستقبلاً. نعم طُرق التعبير عديدة، وتتطوّر مع مفاهيم العصر. فالفنّ القديم يختلف أحياناً عن المعطيات والمضامين الحديثة وذلك بفعل التطوّر والتقدّم والاكتشاف والاجتهاد إلخ..

-إذا كنتَ تنسى معارفك عند الرسم، أفلا يعني ذلك أنك تُبدع بوحي أو بإلهامٍ ما؟!

عندما ندخلُ في عالم الخلق والشعر والجماليّات ندخل في عالم الآلهة، في بانتيون Panthéon الآلهة حيث يسيطر السامي والجمال. والجمال من القيَم. والوحي وضع حقيقيّ وهو ما يميّز فنّاناً أو شاعراً عن آخر! فهل ما يقوله شاعر عبقري كسعيد عقل هو مثل ما يقوله أي كان؟! الأسلوب هو الشخصيّة، والوحي والإلهام أمرٌ طبيعيّ.

-وبالتالي ما هو موقع كلّ من الموهبة والدراسة الأكاديمية في إبداعك الفنّي؟

الدراسة الأكاديمية لا علاقة لها بالخَلق الفنّي والإبداع. الدراسة الأكاديمية هي تحصيل للمعرفة والخبرة واللغة، أمّا الإبداع فأمر علاقته بالخالق. واللوحة هي وحدة متكاملة من تأليف وخطوطٍ وأبعاد وألوان وأحاسيس ولعبة نور وظلّ ومعرفة وشعر وفكر إلخ… لذا أقول دائماً إن الفنّ هو عمل صعبٌ وليس لعباً وتسلية وتمضية للوقت.

*س: تقول: “الفنّ هو قبل كلّ شيء عمل إنساني، وليس عمل الله. الله لا دخل له بالفنّ. الإنسان خلق الفنّ وخلق الحضارة”

-هل تنفي أي إلهام إلهيّ في الإبداع الفنّي؟

الفنّ عملٌ إنساني، هو نتيجة العبقرية الإنسانية: الإنسان الباحث العامل المنتج المفكّر، النشيط وصاحب الإرادة التي لا تتراجع أمام المصاعب. ولنضرب مثلاً على ذلك: ماذا أعطت الطبيعة لباريس؟ لا شيء! كانت محرومة من كل شيء ومجموعة مستنقعات يحوم فوقها البعوض والفقر، إلخ. فوصل الإنسان الخلّاق المبدع العبقري العالِم وغيّر وجهها تدريجيّاً إلى أن أصبحت ما هي عليه اليوم: كلّ حجرٍ وشارع وعمارة ومتحف وكاتدرائية وحديقة هي من إنتاج الإنسان. وخلافاًلذلك فمدينتي جونية هذا الخليج الجميل كما عرفته بين 1945-1960 كان آية في الجمال، فجاء الإنسان وشوّهه وأتلف كل عمل الطبيعة أي الله.

*س: تقول: “كل الفنون متعلّقة ببعضها، وما من فنّ مستقلّ عن الآخر. وكلّ عمل فنّي هو شِعر وقصيدة”.

-ما الفرق في تجربتك بين الرسم بالكلمات، والرسم بالريشة والألوان؟

إنه سؤال سبق لجبران خليل جبران أن قدّم إجابة جيّدة عنه: ما الفرق بين كلمات الأجنحة المتكسّرة وصورة أجنحة متكسّرة، فالكلمة صورة والصورة تختصر كلمات. وقد قيل الشعر هو الفنّ بامتياز. نعم كلّ عمل فنّي هو قصيدة شعرية أكان غناءً أم عمارة أم مسرحاً أم رقصاً أم نحتاً، إلخ…أما علاقة الفنون الجميلة ببعضها فموضوع تحدّثتُ عنه في محاضرات عديدة، ويتطلّبُ حلقة بحثٍ قائمة بذاتها.

-جوزيف مطر الرسّام، وجوزيف مطر الشاعر أيهما برأيك الأبقى والأكثر إبداعاً وخلوداً؟

أنا رسّامٌ مصوّرٌ، والزمن يحكم عليّ إذا كنتُ فنّاناً أم لا! مخلصاً لقناعاتي إن رسمتُ أو كتبتُ أم لا! مبدعاً كنتُ أم لا! أما الخلود فأمر أتركه للخالق الذي خلقنا كلّنا خالدين…

أما بشأن المقارنة بين الرسم والشعر في نتاجي فأنا فنّان مبدع بالأكثر في حقل الرسم، وأكتب الشعر بين فينة وأخرى كي أغيّر في نوعية نشاطي. وبتعبير آخر فأنا رسّام محترف، وشاعر هاوٍ أعبّر عن آراء لي، في بعض الأمور كالحبّ والله والوجود، بالشعر.

*س: درستَ على كبار الفنّانين اللبنانيين، ولا سيما: عمر الأنسي1951-1961، جورج قرم: 1956-1961، رشيد وهبي: 1956-1961

-ماذا أخذتَ عن كلّ منهم؟

هذا سؤال يتطلّب حلقة بحث كاملة. فباستثناء عمر الأنسي فأساتذتي وبالعمق كانوا من عظام الفنّانين: ميكال أنج، ريمبرنت، غويا، دولاكروا…

جورج قرم كان رسّاماً كلاسيكياً كما القدماء، وذو ثقافة أسطورية في حقل الرسم، تعلّمت منه الدقّة Rigueur في الرسم. أما رشيد وهبي فكان رسّام بورتريه (وجوه) بامتياز وقد استفدتُ منه في هذا الجانب.

والخلاصة فالثلاثة: قرم ووهبي وأنسي كانوا أصدقاء لي، والفنّان إذا عاش في أي بلد فأول ما يفعله هو زيارة المتاحف الفنّية فيه، وفي هذا السياق كانت تندرج زياراتي الدورية لهؤلاء الفنّانين الثلاثة وغيرهم.

-أي أثر كان لعمر الأنسي في مسيرتك الفنّية لا سيما وأنّنا نلمح تشابهاً في لوحاتكما؟

مع عمر درستُ درساً واحداً هو أول درس فقط. ولمّا تعرّفت إليه كنتُ قد أمضيتُ عشر سنوات من البحث والرسم وحدي أتعلّم على نفسي، وكنتُ خارج اللعبة: لعبة الخطّ والشكل والحجم والألوان إلخ… فاكتشفتُ “سرّ اللعبة” بدرسٍ واحد. وخلال كلّ السنوات التي قضيناها معاً: الست ماري زوجة عمر، وعمر وأنا كان عمر في كلامه معي وفي مراسلاته يرفض أن يسمّيني “تلميذي”، بل كان يتوجّه إليّ بعبارة: “صديقي الفنّان الرسّام جوزيف”

أمّا أستاذي الحقيقي في هذه الفترة بين الخمسينات والستّينات والسبعينات فكانت الستّ ماري زوجة عمر. فهي كانت معلّمتي الحقيقية. والست ماري كانت ذات ثقافة أسطورية… تعلّمتُ منها ما الفكر والفنّ والثقافة والإنسان، إلخ وكان لها رأي في كلّ المدارس والحركات الفنّية

أما ما تحدّثتَ عنه من تشابه بين لوحاتنا فيمكن أن تشعر ببعض التشابه من حيث اللمسات الشعرية… ولكن بالعمق فهناك روحانيّة خاصّة بي تتجلّى في لوحاتي.

*س: عمِلتَ ردحاً طويلاً في تعليم الرسم: أستاذ في دار المعلّمين: 1964-1978، وفي معهد الفنون الجميلة/الجامعة اللبنانية: 1967-1999 وخرّجت أجيالاً من الفنّانين الجدد.

-فأي أثر ترك تعليم الرسم في تطوّر فنّك؟

في الحقيقة فلو علّمتَ الأولاد الصغار الرسم فأنت تتعلّمُ منهم، لأن تعليم الرسم ليس تعليماً نظريّاً، بل هو عمليّ وتطبيقيّ، فعليك مثلاً أن تلتقط القلم وتشتغل مع التلميذ… وتعليم الرسم أثّر في التطوّر التقني لحرفتي في الرسم، لا سيما وأن الرسم مادّة عليك أن تعيشها كلّ يوم وتمارسها، وتعليم الرسم نمط من ممارسة الرسم.

-أي تلامذتك تراه الأبرع أو الأقرب إلى مدرستك في الفنّ؟

خرّجتُ أجيالاً عديدة في الرسم. أذكر مثلاً طالباً كنتُ أصحّح له رسومه، ونصحته بدراسة الهندسة المعمارية لأنّني اكتشفتُ عنده مهارة مميّزة في هذا المضمار، وقد عمل بنصيحتي، وهو اليوم مهندس معماريّ لامع. وكثير من تلامذتي دخل في الحركة الفنّية المعاصرة، وعرض في مختلف أرجاء العالم. وكثيرون منهم يعلّمون اليوم في معاهد الفنون والجامعات. لكنّني أتحفّظ  بشأن ذكر الأسماء مخافة أن أنسى أحداً منهم.

-كيف ترى تعليم الرسم والفنون التشكيلية في لبنان اليوم، لا سيما أن لك أطروحة دكتوراه وتجربة طويلة في هذا الموضوع؟

عندما وصلتُ إلى لبنان 1965 عملتُ على تغيير اسم مادّة الرسم التي كانت تعلّم في المدارس ودور المعلّمين فصار الاسم “تنشئة فنّية” وبعدها “نشاط توعية فنّية” وليس رسماً وحسب، ويشمل التشكيل بالطين Modelage وغيره من النشاطات الفنّية.

أما بالنسبة إلى تعليم الرسم فعندنا في لبنان، ولا سيما في معهد الفنون التابع للجامعة اللبنانية مستوى جيد جدّاً.

-ماذا عن الطرق الحديثة واستخدام الكومبيوتر في الرسم وتعليمه؟

من يريد أن يصير فنّاناً ورسّاماً محترفاً فعليه أن يعمل بيديه وأن لا يتّكل على الكومبيوتر، فهذا الأخير من شأنه أن يساعد الفنّان ولكنه لا يجعل منه رسّاماً مبدعاً. كثيرون اليوم يدخلون لعبة الفنّ والرسم بواسطة الكومبيوتر، ولكنّهم يبقون مجرّد تقنيين ولا يصيرون فنّانين، والزمن يُسقط أعمالهم!

-أين وكيف ترى موقع لبنان في دنيا الرسم اليوم مقارنة بالدول العربية، وبالدول الغربية؟

المقارنة بين الدول فنّياً مسألة لا تغريني ولا أودّ الدخول في لعبتها! عندنا في لبنان فنّانون كبار، وكذلك في بعض الدول العربية مثل سوريا قبل الحرب، والعراق قبل الغزو، ومصر وغيرها.

وفي لعبة العولمة الكلّ أصبح متساوياً وحركة الفنّ غدت حركة عالمية ولا يمكن عزل فنّ في بلدٍ ما عن سائر البلدان.

*س: تقول إنك تتعاطى مع الفنّ المقدّس بنفَسٍ جديد. وبالفعل فلوحاتك الدينية لا تشبه فن الأيقونة البيزنطي، ولا الفنّ المقدّس الغربي الكلاسيكي!

-هل تصلح اللوحات الحديثة لا سيما تلك التي لا ترسم ملامح الوجوه أن تُعتمد للتعبّد في الكنائس؟

أنا لا أنقل الطرق الغربية، ولا أحبّ النقل. فالفنّ المقدّس يمكن أن نختصره بمنظر أو أي موضوع. الموضوع لا يصنع اللوحة. والموضوع في اللوحة مهما كانت هو الفنّان. والفنّ المقدّس ليس حكراً على الكنائس والمعابد دون غيرها.

صحيح أن التفاصيل هي ركن أساسيّ في الفنّ المقدّس: ملامح الوجوه أو البورتريه عموماً. ولكن ليست هذه وحدها هي الفنّ المقدّس، فهناك مجموعة من العناصر: الطبيعة، الرموز وغيرها، وتجدها في لوحاتي.

-هل أنت من ابتكر هذا الأسلوب الجديد في الفنّ المقدّس، أم أنك تنتمي فيه إلى مدرسة حديثة ما؟

أنا أنتمي إلى مدرستي كما غيري من الفنّانين. ويمكن في المستقبل أن تدعى هذه المدرسة مدرسة الحقبة كذا وكذا من الزمن.

-ماذا عن فنّ الأيقونة البيزنطي، وموقعك منه؟

الفن البيزنطي فيه لعبة خلقٍ مهمّة. وعندي محاولات فيه كمثل تلك التي كلّفني بها مطران في مونريال. ولكنّني في النهاية آثرت المضي في أسلوبي الخاصّ في الفنّ المقدّس!

*س: تقول: “أشتغل كثيراً على لوحتي. واللوحة تكسّر رأسي”. وبالفعل فمعظم لوحاتك تبدأ بمحاولات ودراسات متعدّدة: بقلم رصاص أو بغيره.

-ما دور هذه الدراسات في بلورة فكرة اللوحة وأسلوبها ومشاهدها؟

نعم أنا أعمل الكثير من الدراسات والرسم لأحقّق اللوحة. فأبدأ أحياناً بموضوعي، وبعد المحاولات المتعدّدة أصبح بمكان وبمعطياتٍ أخرى، فهناك دور يلعبه اللاوعي في بلورة العمل.

-هل تبقى الدراسة مجرّد مسودّة (خرطوش)، أم يمكن اعتبارها لوحة بحدّ ذاتها؟

هناك مئات الدراسات، ولا يمكن أن أعتبرها لوحة، بل دراسة وتبقى على ما هي.

*س: لك اهتمام خاصّ بالأعمال الكبيرة، وتتحدّث عن مشروع من هذا النمط سيضمّ 200 لوحة، أنهيتَ منه 60 لوحة، وأسميته ألفا أوميغا: الألف والياء، ويروي سيرة الخَلق وتاريخ الوجود والكون والحضارة والتطوّر في ضوء حدث عظيم عَرَفته الإنسانية: الجلجلة حيث صَلَب الإنسان خالقه، طبقاً لتعبيرك.

-أين صار هذا المشروع الضخم: ماذا أنجزتَ منه؟

هذا عملٌ كبير لا أستطيع أن أنهيه لما يتطلّب من عملٍ ووقت. والعمل كناية عن لوحات 200×135 سنتم، وكل 3 لوحات تشكّل مجموعة، وقد حقّقتُ منها قسماً كبيراً.

-وما الذي لم يُنجَز؟ وهل نأمل بنهاية قريبة له؟

لا ليست النهاية قريبة، فهو مشروع فيه الكثير من التعب ويتطلّب الكثير من الجهد والوقت. كلّه مدروس على القلم، وسأنفّذ منه بقدر ما أستطيع. وعند التنفيذ قد أغيّر أشياء كثير ممّا درستُ!

-كيف ولماذا ترى في الجلجلة الحدث المركزي في تاريخ البشرية؟

فكرة الألف والياء (ألفا أوميغا) هي موضوع تاريخ كلّ العالم منذ بدء الخليقة Big-Bang، واختصرتها بالجلجلة: صَلْب وموت وقيامة سيّد العالم في الجلجلة، وأعتبرها محوراً للعالم أجمع. وبالطبع فيمكن لآخر أن يكون له رأي مغاير.

-وكيف تعبّر عن حدث الجلجلة في فنّك؟

عندما أقول الجلجلة فهذا يعني ببساطة تلّة صغيرة وعليها ثلاثة صلبان. وقد رآها الفنّانون بأشكال شتّى، وكلّ فنّان عبّر عنها بحسب مفهومه وبحسب العصر الذي عاش فيه. سلفادور دالي مثلاً رآها من الجوّ، وفي أسفلها مركب صغير! أمّا أنا فرأيتها: المسيح عرياناً مع قطعة قماش على خصره ولصّ مصلوب عن يمينه وآخر عن يساره. وفي لوحة أخرى رسمتُ مسيح الجلجلة يجوب الكون بأسره…

*س: ثمة ميزة بارزة في لوحاتك وهي النور فأنت تختلس النور حيث تجده لتنثره على لوحاتك ألواناً زاهية وجمالاً وحياة. وأنت تقول في هذا الصدد: “التصوير من الناحية الفنّية خلقٌ متواصل. وثمة عنصر آخر يضاف إلى اللون هو عالم النور…هذه هي التجربة التي تشغلني الآن وتشغل أعمالي كلّ نهار. أقول نهار لأن الليالي لم يعد لها وجود عندي…الأنوار تملأ نفسي أحلاماً ملوّنة على طريق قرب الجنّة”.

-هل توافق على النظرية الكلاسيكية في الرسم والقائلة إنه ظلال ونور Ombres Et lumière؟

نعم في الرسم ظلال ونور، ولكن الرسّام يستطيع أن يتحسّس الأمور بطريقة أخرى! نقول في الفيزياء إنه عندما تكون أشعّة الشمس بأقوى درجاتها في الظهر فكثرة الأنوار وقوّتها تقتل الألوان. فاللون هو بين مساحات الظلّ والنور. هذا في الطبيعة، أما في النفس البشرية فالأمر ليس هكذا. والنظريّات التي تتحدّث عن ظلّ ونور… فهذا أمرٌ واقعيّ وليس غريباً، إنه الواقع الطبيعي. إنما في اللوحة هناك واقع آخر يتعلّق بطبيعة ومعاناة وأحاسيس الروح البشرية التي هي مستقلّة عن قواعد الفيزياء

-وبالتالي ألا يحتاج النور، لا سيما في الرسم، إلى ظلّ وظلمة كي يشرق منها؟

قمتُ بعدّة معارض كان موضوعها النور بكلّ مفاهيمنا للنور. إذ إن النور هو الحياة والحركة والجمال: للشمس نور، وللنفس نور، وللأبدية نور، وللفكر نور إلخ…وفي أحد هذه المعارض نشعر أن اللوحة مضاءة من الداخل بنور مميّز: نور داخلي يفرحنا ويسمو بنا.

-كيف لنا أن نعيش الشمس في داخلنا ونعبّر من خلال النور، طبقاً لتعبيرك؟

المسيح لم يقل أنا الشمس بل قال: {أنا نور العالم}.(يوحنا 8/12). والضرير الذي لا يرى نور الشمس يمكنه أن يتحسّس ويعيش نوراً داخليّاً يتأقلم معه!

-وكيف يساعدنا الرسم والفن عموماً على ذلك؟

عملية التذوّق الفنّي تتعلّق بمستوى الناظر وطريقة تلقّيه. والناس لا ترى الأمور والفنون بالطريقة عينها! بعض العلماء يقولون لك اليوم أن العين لا تنتمي إلى الإنسان بل هي للنظام الشمسي، فهي التي تدخل علينا نور الشمس ونحن نستخدم هذا النور كما نشاء! وهذا ما يفعله الفنّانون كذلك: فكلّ رسّام عبّر عن شيء من ذاته بالنور والظلّ، فإذا رأيت لوحة لـِ ريمبرانت فأنت تعرف لتوّك أنها له. وإذا نظرت إلى لوحة من المدرسة الانطباعية فستعرفها من أضوائها…

*س: أنت مولع برسم الأجساد العارية! ولكنّك بالمقابل تقول: “العري عندي ليس شهوانياً ولا مثيراً Erotique “

-ما دور العري في فنّك وإلى ماذا يرمز؟ وهل ترى في الجسد الإنساني العاري قداسة ما؟

العري ليس فقط الجسد العاري المجرّد من الثياب، إنما هو مفهوم حضاري لجسد تسكنه الروح، فهو جوّ مقدّسٌ وإلا. فكيف تجرّأ ميكايل آنج أن يرسم كل هذه الأجساد العارية في كنيسة السكستين؟! وغيره الكثير من الفنّانين؟!

الفنّان لا يتعاطى الأمور الشهوانية، هذا عيب. الجسد العاري هو وجود كالروح القدس في الثالوث، وهو رمز إلى الأنوثة البريئة الجميلة المقدّسة. ألم يرسم الإنسان وينحت فينوس في مراحل ما قبل التاريخ منذ عشرة أو عشرين ألف سنة؟ إنه الجسد العاري وهو موجود في الفنّ منذ وجود الفنّ. ومنذ لم يكن الإنسان يعرف ما معنى كلمة فنّ وشعر وخلق!

*س: تنشد وطنك في إحدى قصائدك كما يلي: “في شرقنا هذا المتنوّع الجذور والأعراف منذ وجوده ولبنان زهرته والإنسانية هواه”

-ما موقع وطنك في فكرك وفي حياتك، وكيف تجسّد هذا الموقع في فنّك؟

أنا أحمل جنسيّتين على الأرض: اللبنانية والفرنسية. وحلمي أن أحمل الجنسية السماوية حيث المدى لا حدود له، ويتّسع للكثير الكثير.

وأنا أحبّ العولمة الإنسانية وأن تصبح الكرة الأرضية بيتاً واحداً، والناس كلّهم إخوة تجمعهم المحبّة والإخلاص والصداقة والتضحية، إلخ… ولا أحبّ أن تتكرّر واقعة قايين وهابيل. أمّا وأن الأمور ليست هكذا حتى الآن فوطني لبنان أجمل ماخلق الله أفديه بنفسي ودمي، وأعيش تاريخه وماضيه وأتألّم مع شعبنا العظيم الذي مرّت عليه مئات السنين من الاحتلال والظلم والفقر والبطولة والصمود.

-هل تتميّز طبيعة لبنان عن الطبيعة في سائر البلدان التي عرفتها؟ وكيف تنعكس هذه الميزة في لوحاتك؟

عرفتُ العالم بأسره تقريباً. ولكلّ بلد مميّزات وجمال. ويبقى لبنان أولاً. أما ما ينعكس في لوحتي فهو أنا. فاللوحة مرآة عن الفنّان!

*س: أعمالك التي واكبت أحداث وطنك: الحرب اللبنانية، 14 أذار 2005، حرب تموز 2006 والقصف الإسرائيلي للمربع الأمني في الضاحية، حرب الجيش اللبناني على الإرهاب في نهر البارد 2007، وغيرها.

-هل تعبّر هذه الأعمال الفنّية عن موقف سياسي معيّن لك؟

أعمالي واكبت أحداث وطني ما عشتُ منها منذ 1975 وما لم أعش هضمته وتمثّلته وكأني كنتُ حاضراً. وأعمالي تعبّر عن قضايا ومآسي وطنية وإنسانية وبطولية.

-وبالتالي هل أنت مع الفنّ الملتزم أم ترى أن الالتزام السياسي للفنانّ يحدّ من حرّيته وبالتالي قدرته على الإبداع؟

أنا ملتزم في حياتي بالقيَم الإنسانية وبالحرّية والديموقراطية وشرعة حقوق الإنسان…ولا دخل للالتزام بالإبداع. أنا ملتزم بما أؤمن به.

-كيف تنظر إلى مستقبل لبنان، ومستقبل الفنّ في لبنان؟

أنا متفائل بلبنان الغدّ فالعناية الإلهية التي رافقتنا في كل حقبات تاريخنا ولا سيما الصعبة منها لن تتركنا. أما الفنّ في لبنان فليس معزولاً عن الوضع العام: إنه يكبو في الأزمات الصعبة، ليعود وينهض بعدها. صحيح أنّنا في أزمة، لكنها قد تولّد نهضة بعدها…

خاتمة

يصعب أن تضبط الفنّان والمبدع في حوار دقيق، فقد تطرح سؤالاً، ويجيبك عن آخر، أو عمّا رأى في السؤال وتراءى له. وجوزيف مطر مثال بيّن عمّا نقول: في ذهنه قناعات استخلصها من خبرته الطويلة وتجربته في عالم الرسم والفنّ، وهي ما يريد أن يعبّر عنه أولاً وقبل كلّ شيء. وأنت إن استطعتَ أن تحدّد في الحوار معه نقطة انطلاق، فيصعب أن تبرمج أو تعرف إلى أين ستصل: يُبحر بك بعيداً مع الفيانقة مواطنيه القدماء، وينتقل بك بين عواصم الفنّ من واحدة إلى أخرى. ويجول في مختلف أصقاع المتوسّط بحر الفنينيقيين ليعود حكماً إلى الأرض التي عشق وأحبّ: لبنان، وخليج جونية الذي منه أطلّ على الدنيا، وله في الكثير من لوحاته أثر وبصمة. ولا خيار لك معه سوى أن تصغي…بل وتحسن الإصغاء، فمتى أخذ الكلام صال وجال!

وأياً يكن فأنت لا تستطيع إلا أن تحترم حماسه لفنّه وترهّبه في معبده، ونتاجه الغزير.

أما جوزيف مطر الإنسان والمواطن، فيفعمك بإنسانيّته العميقة، ويطربك بوطنيّته الصادقة. لبنانيّ هو حتى العظم، فخور بوطنه كما كان سعيد عقل وأمثاله، وإن كان يعي خطورة الأزمة التي يتخبّط فيها الوطن وتقصير بنيه عن نجدته وصونه!

إنه فنّان يختصر حكاية وطنٍ، ويجسّد برؤاه أمانيه.