جوزيف مطر ينتزع من العتمة فسحة ضوء – ميموزا العراوي
الجمعة، 28 أكتوبر، 2016
ألوان نورانية
بيروت – “إكزود”، أي “هجرة جماعية” ليس هو فقط اسم الصالة التي عرض فيها الفنان اللبناني جوزيف مطر أعماله الأخيرة المعنونة بـ”إيحاءات ضوئية مُشرقة”، بل هو توصيف مباشر لنصف لوحاته المعروضة والتي تتناول الهجرة الجماعية.
اسم الصالة، اسم على مسمى، وقد يظن الداخل إليها أنه ولج في نفقا زمنيّا عاد به إلى الماضي غير البعيد، حيث كانت الطمأنينة سيدة المواقف جميعها وهي المُلونة شبه الحصرية للحظاتها المُغادرة ببطء شديد، حيث لم يترك الفنان للحنين مجالا لأن يقول كلمته في أي لوحة من لوحاته، فبالرغم من الأجواء “العتيقة” التي أخذنا إليها، إلاّ أنه حرص على ألا تغشاها ألوان مغيبية حزينة، بل على العكس، فألوانه شديدة النضارة وعابقة بالحياة.
طواف صوفي
47 لوحة مختلفة الأحجام ومشغولة جميعها بالألوان الزيتية لا تحتكم إلى ضوضاء هذا الزمن الذي نعيش فيه، ولا تصغي إلى صراخه ولا هي لوحات استفادت من تقنياته الفنية الثورية.
وعمد الفنان في ما يقارب نصف لوحاته المعروضة بالمعرض إلى تصوير قوافل بشرية ترتحل في صمت غريب أو تدور في فلك مصائرها غير المُحددة دون أي قلق أو توتر، وذلك خلافا لما نجده حاضرا وبقوة في الأعمال الفنية لفنانين آخرين جسدوا حالة الارتحال، ربما لأن “الهجرة” التي صورها الفنان غير مُرتبطة، لا من قريب ولا من بعيد، بفكرة التهجير القسري بسبب الحروب أو المصاعب الاجتماعية، بل قصد بها تلك الهجرة الروحية، أو ما يشبه الطواف الصوفي المقصود نحو آفاق نورانية ليست من هذا العالم.
وتسيطر روح التعاضد على حشود البشر التي رسمها الفنان لتبدو في معظم اللوحات كهيئات بشرية شبيهة ببعضها البعض وفي أقصى درجات انسجامها مع ذاتها، جميعها ترتدي ملابس طويلة وفضفاضة تشي بخفة منقطعة النظير، ولكنها تخفي معالم الأجساد بشكل شبه كليّ مُعلنة غيابها المدويّ.
وتلتف مجموعات الفنان البشرية حول مصدر نور جوهري، واضح تارة وغامض تارة أخرى، وما هو مؤكد وحاضر في كل هذه المجموعة، هو أن هذا النور هو العنصر التشكيلي الأساسي، لأنه المُحرك الوحيد لتدفق البشر يمينا أو شمالا، صعودا أو نزولا في آفاق لوحاته المفتوحة على فراغ معجون بوفرة ضربات ريشة مُغمسة بالنقاء، نقاء ليس من هذا العالم، ومن هذه اللوحات نذكر “قافلة بشرية” و”بعد الطوفان” و”صلاة مسائية”.
قال الفنان في أحد الأيام “أنا رسول الحبّ والضوء.. واحد من أبناء الشمس الكُثر”، حيث يكاد هذا القول يختصر ماهية وأجواء المجموعة الثانية التي هي ربما أكثر أهمية من المجموعة الأولى من الناحية التقنية والفنية.
جوزيف مطر: أنا رسول الحب والضوء.. واحد من أبناء الشمس الكثر
وتعيد هذه اللوحات المُشاهد إلى زمن كان فيه الهدف السامي للفن هو تصوير الجمال ولا شيء غيره وإن غاص العالم من حوله في أقسى الأزمات، فهذه اللوحات من زمن “الفنون الجميلة” غير المتصلة بأي “صاعق” قد يعرض الفنان أو المُشاهد لأي صدمة أو خلخلة غير مُستحبة في النظرة التقليدية للمجتمع و الطبيعة، والأمور بشكل عام. ولا تخرج هذه اللوحات عن الخط التشكيلي العام الذي صقله الفنان على مدى سنين طويلة من التجارب الفنية والدراسات الأكاديمية إلاّ من حيث المواضيع، حيث تزخر هذه اللوحات بمشاهد لمنازل لبنانية قروية وتقليدية روت جدرانها أشعة الشمس، فبثت نورا أبيض نشر سلامه في جميع أرجاء اللوحة.
تجليات الأبيض
يبدو أن أجمل لوحة في المعرض هي التي تصور بياضات ناصعة ترتجف بفعل النسائم العابرة، وهي مُعلقة على حبل غسيل طويل منصوب على أحد أسطح المنازل، كما رصد الفنان مشاهد يعرفها جيدا أي مزارع شرق أوسطي انشغل بدءا بقطاف الزيتون إلى توضيب سبائك القمح الذهبية، وصولا إلى الاستراحات فوق تلال مكسوة بأشجار اللوز، ومن هذه المجموعة نذكر “البيت الأزرق” و”زرقة صباحية” و”عودة الربيع”.
ويصر الفنان على رؤية العالم بنظرة صافية لا ترى من العالم إلاّ جماله ولا ترى من الحياة إلاّ جوانبها الإيجابية على الرغم مما تغص به من تعاسة وظلم، وذلك لمجرد إيمانه بأن ضوءا ما شديد السطوع ينتظر البشر في آخر المطاف، كما يؤكد الفنان في أعماله الجديدة هذه وتلك التي سبقتها على التزامه بالقضايا الإنسانية وتصويره لأهمية الروابط العائلية.
فن جوزيف مطر لا يريد أن يخرج عن هذا الفلك المستنير بأفكاره الطهرانية والمثالية، وهكذا يرى الوجود وهكذا يرى الفن وسيظل يراه هكذا.
يذكر أن جوزيف مطر من مواليد 1935، بدأت مسيرته الفنية منذ حوالي 70 عاما، درس الفن في لبنان ومن ثم مدريد وروما وباريس، وكان على اتصال دائم بفنانين لبنانيين رواد من أمثال عمر أنسي وجورج قرم ورشيد وهبي. وفي رصيد مطر أكثر من 60 معرضا فرديا في لبنان والعالم، كما تمتلك متاحف دول أجنبية وعربية كثيرة العديد من أعماله الفنية، وللفنان مساهمات عديدة في دعم المؤسسات الإنسانية خاصة على الصعيد اللبناني، فجزء من مبيعات مجموعة “إيحاءات ضوئية مشرقة” عاد ريعه إلى مركز معالجة سرطان الأطفال في لبنان.
ميموزا العراوي
ناقدة لبنانية